الاستغفار سنة الأنبياء والمرسلين، وطريق ووسيلة الأولياء والصالحين، يلجؤون إليه في كل وقت وحين، في السراء والضراءبه يتضرعون وبه يتقربون، وبه يرتقون في مدارج السالكينوبه ينوِّرون قلوبهم وينيرون قبورهم، وبه يصححون سيرهم إلى الله رب العالمين ، وبه يُنصرون ويُمطرون ويرزقون ويغاثون ويرحمون. فأبونا آدم وأمنا حواء عليما السلام لما أذنبا وعاتبهما ربهما أحسَّا بخطئهما التجآ إلى ربهما متضرعين مستغفرين نادمين مسترحمين، فكان مما قالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].وقال سيدنا نوح عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]، وقال: وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ [هود:47].وقال موسى عليه السلام لما قتل رجلا من الأقباط: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16]. وقال شعيب لقومه: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]. وقال سيدنا صالح لقومه بعد أن أمرهم بعبادة الله: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61] وحكى الله عن سيدنا داود لما تسَرَّع في الحكم بين الخصمين ولم يتريث في ذلك، فأحس بخطئه: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ( ص 24 ). وهذا ابنه سليمان قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُوهذا إبراهيم عليه السلام كان يستغفر لنفسه ولأبيه رغم ضلاله، وبقي كذلك حتى تيقن أنه عدو الله فتبرأ منه، وكان يستغفر لكل مؤمن سابق ولاحق، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41].وهذا خيرتهم وخاتمهم محمد قال له ربه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وقال له: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3].ونحن اليوم أشد ما نكون حاجة إلى التوبة والاستغفار والإنابة والاعتذار ؛ لأن زمننا هذا قد امتلأ بالذنوب والمغريات , وكثرة الشهوات والشبهات ، حتى انطمست البصائر والأبصار،وشغل الناس عن ربهم مشاغل الليل والنهار ؛ إلا من رحم العزيز الغفار . قال علي رضي الله عنه: \" العجب ممن يهلك ومعه النجاة، قيل: وما هي ؟ قال: الاستغفاروقال قتادة – رحمه الله -:القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم . أما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفارويروى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: ( يا بني، عوِّد لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً ).وقال أبو المنهال: (ما جاور عبد في قبره من جار أحب من الاستغفار).وقال الحسن: (أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة). وللاستغفار ثمار وفوائد وقطوف وفرائد منها أنه:1- سبب لمرضاة الرب واطمئنان القلب :الاستغفار سبب لمرضاة الرب وسكينة القلب ؛ لأن الله تعالى يحب عباده الأوابين التوابين , المستغفرين المخبتين .قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (222) سورة البقرة.وقال : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28) سورة الرعد.فهو سببٌ لصفاءِ القلب ونقائه، فالذنوب تترك أثرًا سيّئًا وسوادًا على القلب.كما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إنّ المؤمنَ إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تَاب ونزع واستغفر صُقِل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14] .(أخرجه أحمد (2/297)، والترمذي في التفسير (3334)، والنسائي في الكبرى (10251)، وابن ماجه في الزهد (4244)عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ- يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ : ( جُمْدَانُ ) فَقَالَ : « سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ » .قَالُوا : وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : « الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ » رَوَاهُ مُسْلِمٌ .وعن عبد الله بن بسر ، وعن عائشة، وعن أبي الدرداء موقوفا: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا\" صحيح الجامع حديث رقم (3930) .وعن الزبير: \"من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار. صحيح الجامع حديث رقم (5955). قال المناوي في فيض القدير : من أحب أن تسره صحيفته أي صحيفة أعماله إذا رآها يوم القيامة , لقوله تعالى : {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (90) سورة هود.يا من يجيب العبد قبل سؤاله* * * ويجود للعاصين بالغفرانوإذا أتاه السائلون لعفوه * * * ستر القبيح وجاد بالإحسانروى عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللهبعث جيشَاَ فيهم رجل يقال له حدير، وكانت تلك السنة قد أصابتهم شدة من قلة الطعام، فزودهم رسول الله ونسي أن يزود حديراً، فخرج حدير صابراً محتسباً وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان اللّه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هو يا رب، فهو يرددها وهو في آخر الركب. قال: فجاء جبريل إلى النبي، وقال له: إن ربي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابك ونسيت أن تزود حديراً، وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا اللّه، والله أكبر، والحمد للّه، وس بحان اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه، ويقول: نعم الزاد هو يا رب. قال: وكلامه ذلك له نور يوم القيامة ما بين السماء والأرض فابعث إليه بزاد، فدعا النبي رجلًا فدفع إليه الزاد، حفظ عليه ما يقول، ويقول له: إن رسول الله يقرئك السلام ورحمة الله، ويخبرك أنه كان نسي أن يزودك، وإن ربي تبارك وتعالى أرسل إلي جبريل يذكرني بك، فذكره جبريل وأعلمه مكانك. قال: فانتهى إليه وهو يقول: لا إله إلا اللّه، واللّه أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا باللّه . ويقول: نعم الزاد هذا يا رب. قال: فدنا منه ثم قال له: إن رسول ال له يقرئك السلام ورحمة الله، وقد أرسلني إليك بزاد ويقول: إنما نسيتك فأرسل إلي جبريل من السماء يذكرني بك. قال: فحمد اللّه وأثنى عليه وصلى على النبي، ثم قال: الحمد للّه رب العالمين ذكرني ربي من فوق سبعٍ سموات وفوق عرشه ورحم جوعي وضعفي، يا رب كما لم تنس حديراً فاجعل حديراً لا ينساك. قال: فحفظ ما قال فرجع إلى النبي فأخبره بما سمع منه حين أتاه، وبما قال حين أخبره، فقال رسول اللّه: أما إنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرأيت لكلامه نوراً ساطعاً ما بين السماء والأرض .أسد الغابة 1/770 , ابن الجوزي : المنتظم 2/7 , صفة الصفوة 1/292 , وأخرجها ابن منده وأبو نعيم في كتابه معرفة الصحابة ( وفي إسناده مقال ) .قال أبو العتاهية : إلهي لا تعذبني فإني * * * مقر بالذي قد كان منيوما لي حيلةٌ إلا رجائي * * * وعفوك إن عفوت وحسن ظنيوكم من زلة لي في الخطايا * * * وأنتَ عليّ ذو فضلٍ ومنِإذا فكرتُ في ندمي عليها * * * عضضتُ أناملي وقرعتُ سنيأجنّ بزهرة الدنيا جنونا * * * وأقضي العمرَ فيها بالتمنيولو أني صدقت الزهدَ فيها * * * قلبتُ لأهلها ظهرَ المِجنّوبينَ يديّ مٌحتبسٌ طويلٌ * * * كأني قد دُعيتُ له ، كأنييظنُ الناسُ بي خيراً وإني * * * لشرُ الناسِ ، إن لم تعفُ عني 2- سبب لتكفير السيئات ورفع الدرجات:الاستغفار سبب في تكفير السيئات وزيادة الحسنات ورفع الدرجات قال تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58].قال رسول الله صلى الله علية وسلم : ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له . صحيح الجامع.عن زَيْدٍ مَوْلَى النَّبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِيَقُولُ: « مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ » سنن أبى داود(1519) صحيح .وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : جَاءَ حَبِيبُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي رَجُلٌ مِقْرَافٌ . قَالَ : " فَتُبْ إِلَى اللَّهِ يَا حَبِيبُ " . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَتُوبُ ثُمَّ أَعُودُ . قَالَ : " فَكُلَّمَا أَذْنَبْتَ فَتُبْ " . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِذًا تَكْثُرُ ذُنُوبِي ، قَالَ : " عَفْوُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ ذُنُوبِكَ يَا حَبِيبُ بْنَ الْحَارِثِ " المعجم الأوسط للطبراني(5415 ) وفيه ضعف. ويَقُول اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ يَعْمَل سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } ( سورة النساء / 110)وقال :{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } [آل عمران/135-137]وكما في الحديث القدسي: \" يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ .- فِيمَا يَرْوِى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ « يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِى وَرَجَوْتَنِى فَإِنِّى سَأَغْفِرُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَوْ لَقِيتَنِى بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا لَلَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً وَلَو عَمِلْتَ مِنَ الْخَطَايَا حَتَّى تَبْلُغَ عَنَانَ السَّمَاءِ مَا لَمْ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِى لَغَفَرْتُ لَكَ ثُمَّ لاَ أُبَالِى » صحيح مسلم(6737 ) مطولا.وعَنْ أَبِى ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ قال : (( ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ، ثم يقوم فيصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له )) أبو داود والترمذي.


0 التعليقات Blogger 0 Facebook

إرسال تعليق

 
عالم التكنولوجيا © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger
Top